فن الخطابة: محرك للتاريخ
صعد ماركوس أنطونيوس لتأبين صديقه يوليوس قيصر بعد أن إغتاله أعدائه الأرستقراطيين أثناء جلسة مجلس الشيوخ.
موت قيصر لفينتشنزو كاموتشيني، بين 1804 و 1805
كان بروتوس، أحد قاتلي قيصر، وأحد أهم الشخصيات في روما قد تكلم قبله، فأفحم و أقنع، ولم ينهي كلامه إلا والجماهير قد وافقته رأيه : إن قيصر كان طاغية وإن قتله كان واجبا لإنقاذ الجمهورية الرومانية.
لكن كل شيئ تغير عندما تكلم ماركوس أنطونيوس.
قام شكسبير بتصوير ذلك الخطاب العظيم في مسرحية “يوليوس قيصر” (النسخة الإنجليزية الأصلية Epub، النسخة العربية Epub).
كان أنطونيوس في وضع حرج إذ كانت الجماهير في أغلبها معادية له. ولم يُسمح له بالتكلم إلا إحتراما لمقامه كشخصية مرموقة في روما وبشرط أن لا يهاجم بروتوس وأصدقائه.
تكلم أنطونيوس إلى الحشود على أنهم إخوة وأصدقاء، ليُشعرهم أنه في صفهم وواحد منهم. ثم إستطرد قائلا بأنه لم يأتي سوى لدفن صديقه فقط. كما أقر برفعة مقام بروتوس وأصدقائه.
هذه البداية الحذرة تبعتها جملته الشهيرة : “ما يأتِ امرؤ من شر يبقَ بعده، وما يأتِ من خير يدفن معه في قبره، فلتكن هذه سبيلنا مع قيصر”. وهو بذلك يلمح بأن تركيز الجميع على أخطاء قيصر ربما جعلهم يتغافلون أو يتناسون حسناته. فإذا بكل مستمع يجد نفسه ينزلق إلى السؤال الأهم: هل إرتكب قيصر فعلا ما يبيح قتله بهذه الطريقة؟
في وصفه لما حدث، لم يقم أنطونيوس بمناقضة موقف بروتوس مباشرة. بل إنه وصفه بالشريف الفاضل. لكنه إستعمل دائما صيغة إفتراضية في وصفه لما وقع: إذا كان قيصر طاغية، فهذه جريمة لا تغتفر وقد دفع ثمنها غاليا. كلمة بعد كلمة، تلميح بعد تلميح، يتدرج أنطونيوس بمستمعيه نحو الشك بشرعية ما وقع. فيذكر كيف تناقض أفعال قيصر ما وصفه به بروتوس من طمع وجوع للسلطة: كيف رفض التاج الذي تم إهداؤه إليه في عيد لوبركاليا، كيف أحسن إلى الفقراء والمساكين وكيف قدم خدمات عظيمة للدولة والشعب الروماني. كل ذلك مع إقراره (الساخر) بشرف بروتوس وأصدقائه.
خطاب ماركوس أنطونيوس في جنازة قيصر لجورج إدوارد روبرتسون (1864)
” … لقد كنتم تحبون قيصر حينًا من الدهر، وكان قيصر بهذا الحب منكم جديرًا، فما بالكم اليوم لا تأسون عليه ولا ترثونه بما هو أهله؟! أيها التمييز! لقد تحولت عن بني البشر إلى الوحوش والبهائم، فأصبح الناس بلا ألباب ولا عقول!”
لم يصف أنطونيوس بروتوس مباشرة بالوحش، ولكنه بعث في الحشد فكرة أنه قد تم التلاعب به من قبل مجموعة من المجرمين.
ثم قال متذكرا إنتصارات قيصر وأمجاده :
“… إذا كان في أوعية دموعكم سجال، فتهيئوا الآن لأن تسفحوها، كلكم يعرف هذا الطيلسان وإني لأذكر أول عهد قيصر باكتسائه، لقد كان ذلك في أصيل يوم صائف بسرادقه، في ذلك اليوم هزم قيصر البلجيك وبدد شملهم.
فانظروا ترَوْا بهذا الموضع من الطيلسان منفذ خنجر كاسياس. ثم انظروا بموضع آخر ها هنا، فتأملوا أي خرق أحدثه كاسكا الحقود …”
من مسرحية يوليوس قيصر لويليام شكسبير
لم ينتهي أنطونيوس من خطابه إلا والحشود تتدافع بكاء وحزنا على بطلها الفقيد. فإذا بنفس من كان يتهم قيصر بالطغيان يثورون غضبا لمقتله ويتوعدون أعداءه بالثأر.
هذا الإنجاز العظيم لم يأت من فراغ. لقد كان ماركوس أنطونيوس متمكنا من فن الخطابة إذ درسه في شبابه في أثينا على يد أفضل المدرسين في العالم الهلينستي، ثم مارسه لسنوات عدة أثناء تقلده لمناصب عسكرية وسياسية مهمة في روما وفي بلاد الغال. فعرف لذلك كيف يخاطب مشاعر جمهوره ويستثيرها بتدرج وإيقاع مدروس، بالتوازي مع حججه المنطقية والعقلانية.
كانت هذه لحظة لعب فيها فن الخطابة دورا مصيريا لتحديد وجهة التاريخ. لكنها لم تكن الوحيدة. لقد كان فن الخطابة ضروريا لرجال الدولة والسياسة من اجل ألتأثير في الجماهير وتغيير الواقع. بل انه يقترن دائما بفترات الصعود والقوة في حياة الحضارات ثم يختفي في العصور الموالية.
مارتن لوثر كينج أثناء خطابه “لدي حلم” (1963)
لمواصلة القراءة عن فن الخطابة:
قبل أكثر من 2400 سنة كتب أرسطو كتابا عظيما إسمة “الخطابة” يعطى فيه تحليلا كاملا لهذا الفن في الإطار اليوناني الذي نشأ فيه. رغم مرور كل هذه القرون يبقى هذا الكتاب مهما للباحثين ولمن يريدون فهم ميكانيزمات التأثير.
من الأفكار المهمة للكتاب : تقسيم آليات الإقناع إلى
ـ ماهو خارج الخطابة (كالأدلة والشهود والإتفاقات المكتوبة)
ـ أخلاق وسمعة الخطيب
ـ الناحية العاطفية والنفسية للحضور
ـ الناحية العقلية المنطقية
كل هذه الآليات مهمة. لكن ماهو مهم كذلك هو تنسيق هذه الآليات بما يتناسب مع نوع الخطاب (خطاب تأبين، خطاب سياسة، خطاب أمام قضاة ومحلفين…)
في ما يلي:
مقال بالإنجليزية عن كتاب أرسطو وقيمته التاريخية : الخطابة لأرسطو
تمت ترجمة كتاب الخطابة لأرسطو للعربية منذ العصور الوسطى ، ثم أعيدت الترجمة حديثا أكثر من مرة.
النسخة العربية (PDF مصور)
مسرحية “يوليوس قيصر” لويليام شكسبير (النسخة الإنجليزية الأصلية Epub، النسخة العربية Epub)