ما مستقبل اللغة العربية؟

هذا المقال تلخيص لبعض الأفكار عن الأزمة الخطيرة للغة العربية اليوم. تجدون أسفل المقال روابط لكتب ولمقالات مهمة عن هذه المسألة.

اللغة العربية هي إحدى اللغات الرسمية الستة للأمم المتحدة، وسادس لغة في عدد الناطقين بها بالتساوي مع الفرنسية حسب تقرير السي آي إيه ل2020. لكنها رغم تاريخها وأهميتها تمر بمنعطف خطير يهدد حاضرها ومستقبلها.

مرت اللغة العربية بقرون الإستعمار والضعف والإنحطاط دون أن تختفي. بل إنها شهدت نهضة جديدة في القرن العشرين جعلتها تسترجع بعضا من مكانتها بفضل مجموعة من الكاتبين والشعراء والمفكرين الكبار الذين قامو بمجهودات جبارة للكتابة بلغتهم وتحملوا في سبيل ذلك مصاعب تطويع اللغة والمفردات وإثرائها لتصبح ملائمة أكثر لتطور العالم.

الرابطة القلمية : نسيب عريضة، جبران خليل جبران، عبد المسيح حداد، ميخائيل نعيمة. وهم من بين من ساهموا في تجديد اللغة العربية في القرن العشرين

الرابطة القلمية : نسيب عريضة، جبران خليل جبران، عبد المسيح حداد، ميخائيل نعيمة. وهم من بين من ساهموا في تجديد اللغة العربية في القرن العشرين (المصدر : ويكيبيديا)

لكن شيئا ما وقع جعل هذا التجديد يتباطأ، فإذا بها تنفصل أكثر بأكثر عن لغات العلم والمعرفة والتكنولوجيا (الإنجليزية خاصة).

إن من الواضح اليوم أن العربية لم تعد تواكب تسارع نسق الحياة وتغيرات المجتمع وارتفاع التبادل الثقافي واللغوي بسبب وسائل الإعلام وشبكات التواصل. فإذا باللهجات العامية تتحول تدريجيا إلى لغات، حتى أن بعض المراكز الأكاديمية بدأت في التحدث عن لغة مصرية ومغربية… ولم تعد اللغة العربية معترفا بها كلغة أم في بعض الإحصائيات [4].ترتيب اللغات حسب عدد الناطقين في إحدى إحصائيات مجلة إثنولوج (2011).

التشخيص

يمكننا تفسير أزمة العربية كمشكلة لغوية تقنية قبل كل شيء، إذ يمكننا ملاحظة أن قواعد اللغة العربية الجوهرية لم تتغير منذ 1500 سنة ولم تعد تستعمل إلا نادرا في حياتنا اليومية. يتحدث شريف الشوباشي في كتابه [1] بالتفصيل عن كل التعقيدات المتوارثة والتي رفضت أجيال من الكاتبين والفقهاء تعديلها حفاظا على نقاء وقدسية اللغة. هذا ما جعل اللغة العربية اليوم في نفس حال اللاتينية في نهاية القرون الوسطى، أي لغة للتعاملات الرسمية وللدين والقانون، بينما يتعامل الناس بلهجات تستعير ألفاظها من محيطهم الثقافي المباشر.

اليوم، يكاد لا يُوجَد شخص في العالم العربي لا يُخطئ اثناء الكتابة بالعربية الفصحى. “وحتى الذين يَتباكَون على اللغة ويَتهكَّمون على أخطاء غيرِهم غير قادِرين على القراءة والكِتابة دون خطأ، باستثناء بِضعِ مئاتٍ معدودة من المُتخصِّصين في العالم العربي” [1]. بينما يجد الأغلبية صعوبات هائلة لفهم النصوص في هذه اللغة (تقرير البنك الدولي : 90% من تلاميذ العراق لا يفهمون ما يقرأون [3]).

أمام هذا الواضع ظهرت عديد المبادرات لإصلاح اللغة وإحيائها من جديد. لنذكر أولا مجهودات الكاتبين باللغة العربية الذين قاموا بإنجازات كبيرة مثل تحرير الشعر (بدر شاكر السياب، ناظم الملائكة…)، أو تحديث أسلوب النثر (الرابطة القلمية، نجيب محفوظ…).

كذلك قامت الصحافة منذ سنوات بإسهامات جوهرية لإبتداع الكلمات والأساليب من أجل نقل الخبر أو ترجمة المقالات والتصريحات. أخيرا قام بعض الكاتبين العرب باقتراحات مهمة لتبسيط قواعد اللغة ذاتها. منها ما اقترحه شريف الشوباشي في كتابه “لتحيا اللغة العربية يسقط سيبويه” [1].

من ناحية أخرى، لا يمكن فصل حال اللغة العربية عن حال الحضارة العربية نفسها. هذا ما تفطن له العديد من كبار المفكرين والكاتبين العرب. من ذلك ما كتبه جبران خليل جبران [2] :

إنما اللغة مظهر من مظاهر الابتكار في مجموع الأمة، أو ذاتها العامة، فإذا هجعت قوة الابتكار توقفت اللغة عن مسيرها، وفي الوقوف التقهقر، وفي التقهقر الموت والاندثار.
إذًا فمستقبل اللغة العربية يتوقف على مستقبل الفكر المبدع الكائن — أو غير الكائن — في مجموع الأمم التي تتكلم اللغة العربية. فإن كان ذلك الفكر موجودًا كان مستقبل اللغة عظيمًا كماضيها، وإن كان غير موجود فمستقبلها سيكون كحاضر شقيقتها السريانية والعبرانية.

إحتمالات المستقبل

ظهور لغات جديدة وموت العربية

وهو ما يبدو الخيار الأكثر إحتمالا اليوم. لنتذكر كيف ظهرت اللغات الفرنسية والانجليزية كلهجات عامية في البداية من رحم اللاتينية في نهاية العصور الوسطى، قبل أن يتم تبنيها من قبل السلطات كإعتراف بأمر واقع لا يمكن تجوازه. أدت سيطرة هذه اللغات على مجالات جغرافية لظهور وتوحيد شعوب مختلفة في أوروبا.

إن إختفاء اللغة العربية وظهور لغات جديدة محلية سيكون زلزالا حضاريا هائلا يؤدي إلى فقدان العمق الثقافي والحضاري للشعوب الناطقة باللغة العربية، وتفقير الفكر واللغة. إذ أن اللغة العربية ممثلة بعدد لا يحصى من المؤلفات والقصائد والروايات والترجمات لكل المؤلفين الكبار في العالم. الإنفصال عن هذا التاريخ سيعني تقوقع وإنحطاط العقل والخيال للشعوب المعنية. بينما قد تتبنى النخب لغات أخرى للتعبير تكون أكثر تناسقا مع الواقع ومع الحداثة.

نتائج هذا الزلزال لن تقتصر عى الثقافة، بل ستكون له نتائج إقتصادية وسياسية هائلة. حيث ستصبح هذه الكيانات المنفصلة الضائعة بالضرورة منعزلة ثقافيا وفكريا وسيجعلها أطرافا ضعيفة تابعة حضاريا لجيرانها الأقوياء.

تحديث وإحياء اللغة العربية

وهو الخيار الأصعب والأفضل في نفس الوقت. لا يكون ذلك إلا بتبسيط القواعد [1] ليقترب المنطوق من المكتوب والعكس بالعكس. هكذا تم تجديد اللغات الإنجليزية والفرنسية من أصولها القروسطية.

كذلك لابد من موجة إبداعية جديدة تثبت للناطقين بالعربية ما يمكن تحقيقه بتحرير اللغة. إني أتفق تماما مع جبران عندما يقول[2]:

إن خير الوسائل، بل الوسيلة الوحيدة لإحياء اللغة هي في قلب الشاعر وعلى شفتيه وبين أصابعه. فالشاعر هو الوسيط بين قوة الابتكار والبشر، وهو السلك الذي ينقل ما يحدثه عالم النفس إلى عالم البحث، وما يقرره عالم الفكر إلى عالم الحفظ والتدوين.

الشاعر أبو اللغة وأمها، تسير حيثما يسير وتربض أينما يربض، وإذا ما قضى جلست على قبره باكية منتحبةً حتى يمر بها شاعر آخر ويأخذ بيدها. وإذا كان الشاعر أبا اللغة وأمها فالمقلد ناسج كفنها وحافر قبرها.

أعني بالشاعر كلَّ مخترع، كبيرًا كان أو صغيرًا، وكل مكتشف، قويًّا كان أو ضعيفًا، وكل مختلق عظيمًا كان أو حقيرًا، وكل محب للحياة المجردة، إمامًا كان أو صعلوكًا، وكل من يقف متهيبًا أمام الأيام والليالي، فليسوفًا كان أو ناطورًا للكروم.

الشاعر، فسيفساء رومانية (سوسة، تونس)

فسيفساء فرجيل، متحف باردو بتونس

ثم يستطرد:

أقول ثانية: إن حياة اللغة وتوحيدها وتعميمها وكل ما له علاقة بها قد كان وسيكون رهن خيال الشاعر، فهل عندنا شعراء؟

نعم، عندنا شعراء، وكل شرقي يستطيع أن يكون شاعرًا في حقله وفي بستانه وأمام نوله وفي معبده وفوق منبره وبجانب مكتبته. كل شرقي يستطيع أن يعتق نفسه من سجن التقليد والتقاليد ويخرج إلى نور الشمس فيسير في موكب الحياة. كل شرقي يستطيع أن يستسلم إلى قوة الابتكار المختبئة في روحه، تلك القوة الأزلية الأبدية التي تقيم من الحجارة أبناء الله.

أما أولئك المنصرفون إلى نظم مواهبهم ونثرها فلهم أقول: ليكن لكم من مقاصدكم الخصوصية مانع عن اقتفاء أثر المتقدمين، فخير لكم وللغة العربية أن تبنوا كوخًا حقيرًا من ذاتكم الوضعية من أن تقيموا صرحًا شاهقًا من ذاتكم المقتَبَسة.

مخطوطة عن تشريح العين لحنين بن إسحاق من كتابه المسائل في العين في المكتبة الوطنية في القاهرة مؤرخة منذ عام 1200م تقريبا. في تلك الفترة، كانت اللغة العربية الأكثر ملائمة للأعمال الأدبية والعلمية أيضا.

لمواصلة القراءة

[1]  لتحيا اللغة العربية يسقط سيبويه، شريف الشوباشي

[2]  البدائع والطرائف لجبران خليل جبران

[3]  “%90 من تلاميذ العراق لا يفهمون ما يقرأون”… تقرير للبنك الدولي يغضب بغداد

[4]  ويكيبيديا، By Nikolay Omonov – Own work, CC BY-SA 4.0

،